رسالة من أ.د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..
تاريخ مصر هو مستقبل مصر:
ونحن نحيا في ظلال ثورة 25 يناير الكريمة تهلُّ علينا ذكرى عيد الجلاء 18 يونيو 1956، احتفالاً برحيل آخر جندي بريطاني عن أرض مصر، وعلى الرغم من تسمية كثيرًا من المنشآت والشوارع بالجلاء، إلا أننا بعد الثورة الشعبية العظيمة لا بدَّ من إحياء الأيام المصرية المجيدة- خاصة يوم الجلاء- بما يليق بها؛ حيث إنه عبَّر بصدق عن عدم توقف الشعب المصري عن مقاومة أي محتلٍ أو غاصبٍ.
وظل حلم الجلاء يقوى في روح كل المصريين، الذين قاوموا ببسالة وسالت دماؤهم الطاهرة على أرض مصر، منذ بدء الاحتلال ومرورًا بثورة 1919م ثم تصريح 1928م، إلا أنه كان استقلالاًً ناقصًا وغير حقيقي، واشتدت مطالبة المصريين بالجلاء الحقيقي حتى كانت معاهدة 1936م التي لم تحقق الآمال، ولذلك لم تهدأ الحركة الوطنية، فعادت المظاهرات الشعبية الضخمة، التي راح ضحيتها عدد من الشباب المصري من المسلمين والمسيحيين في عام 1946م وهم يهتفون (الجلاء التام أو الموت الزؤام)، وحين أصر المحتل البغيض على عدم مغادرة القناة، بدأت العمليات الفدائية على خط القناة، والتي ضرب الإخوان المسلمون فيها المثل في تقديم التضحيات والدماء مع إخوانهم من الوطنيين المصريين، لإجبار المحتل على الرحيل، فتم إلغاء معاهدة 36 عام 1951م، وبعدها شهد يوم 18 يونيو 1956م انتهاء الوجود البريطاني تمامًا بإجلاء آخر جندي إنجليزي عن مصر، كثمرة من العطاء الشعبي والفداء لأبطال مصر النجباء.
ومن قبلها وفي نفس التاريخ 18 يونيو 1953م كان إنهاء الملكية وإقامة أول جمهورية برئاسة محمد نجيب، فإن كان الاحتلال الذي كان ينهب الثروات ويهدد الحريات ويستأثر بالسلطة، قوبل بهبة الشعب المصري- الذي انتفض لاسترداد حقوقه المسروقة، وإعادة حريته المسلوبة، وامتلاك كرامته المغصوبة- فقد سطرت الدماء تلك الحقيقة الباقية: أن الشعوب هي الأبقى، وهي صاحبة الحق في إدارة شئونها، وليس لأحد أن يتحدث باسمها أو الوصاية عليها.
وتأتي نعمة الله على مصر بنجاح ثورتها الشعبية السلمية الحضارية في 25 يناير التي قدم فيها دماءه ثمنًا للحرية والعدل والمساواة، وها نحن الآن أمام عهد جديد يقول للعالم: هذا هو تاريخ مصر، وهذا هو مستقبل مصر، يسطره شعبها الأبي وشبابها المقدام.
ثورة مصر والجلاء الجديد:
واليوم ونحن على موعد ومعنى جديد للجلاء، بعد ثورة 25 يناير، بما حققته من مكاسب وما تزال تحققه، من التطهير والشفافية والحرية والكرامة على المستوى الداخلي، وبما تحققه من جلاء المشروع الأمريكي الصهيوني عن مصر، الذي ربطنا به النظام البائد عنوة لمدة ثلاثين عامًا أو يزيد، هذا الجلاء الذي بدأ باستقلال القرار المصري الوطني، وبتبوء مصر لمكانتها المستحقة إقليميًَا ودوليًّا، فإن دورنا الحقيقي اليوم يتمثل في السعي نحو تحقيق مصلحة الوطن، وتخفيف الأعباء التي تحملناها طيلة العهد البائد، ولا يكتمل ذلك إلا بتقديم النموذج العملي، في إعلاء العمل على القول، فقد انتهى زمن الكلام، وبدأ ميدان العمل والإنتاج والبناء، الذي كنا وسنظل- بإذن الله- فيه شركاء نتعاون في الخير ونقف جميعًا في وجه الفساد: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: من الآية 2).
والعمليون هم الذين ينهضون بوطنهم، ويسهرون من أجل رفعته، ما يتطلب من كل المصريين- وفي القلب منهم الإخوان المسلمون- أن يبتكروا من المشروعات التنموية في المجالات التعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدعوية ما يحقق رفعة ورخاء وإعلاء شأن الأمة المصرية علميًّا وصحيًّا وزراعيًّا وتجاريًّا وصناعيًّا وثقافيًّا وفنيًّا ورياضيًّا وحضاريًّا.
ومن الوثائق التاريخية للإخوان المسلمين البيان الذي أصدره الإمام حسن الهضيبي المرشد العام الثاني- يرحمه الله- في أول أغسطس 1952م، والذي يؤكد المبادئ الثابتة للإخوان المسلمين من ضرورة تغليب العمل والبناء لمصلحة الوطن، وقد جاء فيه: (الآن ينبغي أن ننظر إلى الأمام، وألا يأخذنا الزهو بهذه الانتصارات عما يجب من استئناف العمل في مرافق الإصلاح الشامل، حتى تشعر الأمة بأنها انتقلت نقلة كلية من عهد إلى عهد، وهذا يفرض على كل ذي رأي في الأمة أن يتقدم إلى الأمة، وأولي الأمر فيها، بمشورة خالصة لله، بريئة من الهوى، مما ينبغي أن يتجه إليه الإصلاح المنشود، لبعث هذه الأمة من جديد، وسنة الإخوان المسلمين، أن يتقدموا إلى الأمة في مثل هذه المراحل المتميزة من تاريخها، بالرأي، يستقونه من كتاب الله الذي يسوي بين المسلمين وغير المسلمين في حقوقهم وواجباتهم العامة، ولا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون).
من أولويات العهد الجديد:
فمن أهم أولويات العهد الجديد أن يتحد صف الشعب المصري كله، كما كنا في الثورة المباركة كالبنيان المرصوص من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وبناء الحضارة، لمستقبل يسوده إعلاء لقيم القانون والديمقراطية وحرية التعبير واحترام لحقوق الإنسان والقيم والمثل القويمة وفرص متكافئة لجميع المصريين في وطنهم.
وهذا ما أظهرته الثورة من تلاحم الشعب المصري بكل أطيافه وفئاته وتوجهاته واعتقاداته، في هذا الحب الكبير الذي يكنه المصريون لبلدهم مصر، وتشهد بذلك اللجان الشعبية التي انطلقت وما تزال لحماية البلد، ومن تقديم نماذج راقية انبهر بها العالم من أخلاق وقيم الشعب المصري الأصيل في أثناء ثورته من تكامل وتعاون.
ومن أولويات العهد الجديد ضرورة الوعي الكامل بما يدور في المشهد الحالي بين التيارات الفكرية، فالأوضاع تقتضي تطوير أشكال الحوار المختلفة، بديلاً لحالة التنابز والهجاء والهجوم التي يتعرض لها التيار الإسلامي والإخوان المسلمون على وجه الخصوص، حتى تتشكل أرضية توافقية تمهد لاستقرار الوطن، ونقف جميعًا في وجه مَن يريدون التفريق والتمزيق والتخويف والتخوين؛ لأننا كما هدمنا الظلم والطغيان جميعًا، سنبني المستقبل جميعًا أيضًا بإذن الله تعالى.
إن طريق الصف الواحد ثم الوعي الكامل والعمل المتواصل للإنتاج والبناء، هو وحده الكفيل بتحقيق الجلاء الداخلي، بعد عهد من الاستبداد والفساد والديكتاتورية وسوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لنبدأ معًا في إحياء روح الجلاء لمصر ولشعب مصر، وهو في طريقه للنهضة واستعادة مكانته السامية بين دول العالم: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)﴾ (الإسراء: من الآية 51).